سورة المائدة - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{يَا أَهْلِ الكتاب} تكريرٌ للخطاب بطريق الالتفات ولطفٌ في الدعوة {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ} حال من رسولنا، وإيثارُه على مبيِّناً لما مر فيما سبق، أي يبين لكم الشرائعَ والأحكامَ الدينية المقرونة بالوعد والوعيد، ومن جملتها ما بين في الآيات السابقة من بطلان أقاويلِكم الشنعاء، وما سيأتي من أخبار الأمم السالفة، وإنما حُذف تعويلاً على ظهور أن مجيءَ الرسول إنما هو لبيانها، أو يفعلُ لكم البيانَ، ويبذُله لكم في كل ما تحتاجون فيه إلى البيان من أمور الدين، وأما تقديرُ مثل ما سبق في قوله تعالى: {كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب} كما قيل فمع كونه تكريراً من غير فائدة، يرده قوله عز وجل: {على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل} فإن فتورَ الإرسال وانقطاعَ الوحي إنما يُحوج إلى بيان الشرائع والأحكام لا إلى بيان ما كتموه و{على فترة} متعلق بـ {جاءكم} على الظرفية كما في قوله تعالى: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سليمان} أي جاءكم على حين فتور من الإرسال وانقطاع من الوحي، ومزيدِ احتياج إلى بيان الشرائع والأحكام الدينية، أو بمحذوفٍ وقع حالاً من ضمير يبين، أو من ضمير لكم، أي يبين لكم ما ذُكر حال كونه على فترة من الرسل، أو حال كونكم عليها أحوجَ ما كنتم إلى البيان، و{من الرسل} متعلق بمحذوفٍ وقع صفةً لفترة، أي كائنةٍ من الرسل مبتدَأةٍ من جهتهم.
قوله تعالى: {أَن تَقُولُوا} تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حذف المضاف أي كراهةَ أن تقولوا معتذرين عن تفريطكم في مراعاة أحكام الدين {مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} وقد انطمست آثارُ الشرائع السابقة، وانقطعت أخبارُها، وزيادة {مِنْ} في الفاعل للمبالغة في نفي المجيء، وتنكير بشير ونذير للتقليل، وهذا كما ترى يقتضي أن المقدر أو المنوي فيما سبق هو الشرائع والأحكام لا كيفما كانت، بل مشفوعة بما ذكر من الوعد والوعيد، وقوله تعالى: {فَقَدْ جَاءكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} متعلق بمحذوف ينبىء عنه الفاء الفصيحة وتُبيِّنُ أنه مُعلَّل به، وتنوينُ {بشيرٌ ونذيرٌ} للتفخيم أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم بشير أيُّ بشيرٍ ونذير أيُّ نذير {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيقدِرُ على الإرسال تترى كما فعله بين موسى وعيسى عليهما السلام حيث كان بينهما ألفٌ وسبعُمائة سنة وألفُ نبيَ وعلى الإرسال بعد الفترة كما فعله بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، حيث كان بينهما ستُمائة سنةٍ أو خمسُمائةٍ وتسعٌ وستون سنةً أو خمسُمائةٍ وستٌ وأربعون سنةً وأربعةُ أنبياءَ على ما روى الكلبيّ ثلاثةٌ من بني إسرائيلَ وواحدٌ من العرب خالد بن سنان العبسي، وقيل: لم يكن بعد عيسى عليه السلام إلا رسولُ الله عليه السلام وهو الأنسبُ بما في تنوين {فترةٍ} من التفخيم اللائق بمقام الامتنان عليهم بأن الرسول قد بُعث إليهم عند كمالِ حاجتهم إليه بسبب مضيِّ زمانٍ طويل بعد انقطاعِ الوحي ليهشّوا إليه ويعُدّوه أعظمَ نعمةٍ من الله تعالى، وفتحَ بابٍ إلى الرحمة، وتلزَمُهم الحجةُ فلا يَعتلُّوا غداً بأنه لم يُرسَلْ إليهم من يُنبِّههم من غفلتهم.


{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} جملةٌ مستأنفةٌ مسوقةٌ لبيان ما فعلت بنو إسرائيلَ بعد أخذِ الميثاق منهم، وتفصيلِ كيفيةِ نقضِهم له وتعلّقِه بما قبله، من حيث إن ما ذُكر فيه من الأمور التي وصفَ النبيَّ عليه السلام بيانُها، ومن حيث اشتمالُه على انتفاء فترة الرسل فيما بينهم، و{إذ} نُصب على أنه مفعولٌ لفعل مقدرٍ خوطب به النبيُّ عليه الصلاة والسلام بطريق تلوينِ الخطاب، وصَرْفُه عن أهل الكتاب ليعدِّدَ عليهم ما صدر عن بعضهم من الجنايات. أي واذكُر لهم وقت قولِ موسى لقومه ناصحاً لهم ومستميلاً لهم بإضافتهم إليه {الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} وتوجيهُ الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغة في إيجابِ ذكرِها، لما أن إيجابَ ذكرِ الوقت إيجابٌ لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني، ولأن الوقت مشتملٌ على ما وقع فيه تفصيلاً، فإذا استُحضِر كان ما وقع فيه حاضِراً بتفاصيله، كأنه مشاهَدٌ عِياناً، و{عليكم} متعلق بنفس النعمة إذا جُعلت مصدراً، وبمحذوف وقع حالاً منها إذا جُعلت اسماً، أي اذكروا إنعامه عليكم، وكذا {إذ} في قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء} أي اذكروا إنعامه تعالى عليكم في وقت جَعْله أو اذكروا نعمته تعالى كائنة عليكم في وقت جعْلِه فيما بينكم من أقربائكم أنبياءَ ذوِي عددٍ كثير وأُولي شأنٍ خطير، حيث لم يَبْعثْ من أمة من الأمم ما بَعَث من بني إسرائيلَ من الأنبياء {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} عطفٌ على {جعل} فيكم أو منكم ملوكاً كثيرة، فإنه قد تكاثر فيهم الملوكُ تكاثرَ الأنبياء، وإنما حذف الظرف تعويلاً على ظهور الأمر أو جَعْل الكلِّ في مقام الامتنان عليهم ملوكاً، لما أن أقاربَ الملوك يقولون عند المفاخرة: نحن الملوك، وإنما لم يسلُكْ ذلك المسلكَ فيما قبله لما أن منصِبَ النبوةِ مِنْ عِظَم الخطر وعِزَّة المطلب وصعوبة المنال بحيث ليس يليقُ أن يُنْسبَ إليه ولو مجازاً مَنْ ليس ممن اصطفاه الله تعالى له. وقيل: كانوا مملوكين في أيدي القِبْط فأنقذهم الله تعالى فسمَّى إنقاذهم مُلْكاً، وقيل: المَلِكُ مَنْ له مسكنٌ واسع فيه ماء جار، وقيل: من له بيت وخدم، وقيل: من له مال لا يَحتاج معه إلى تكلف الأعمال وتحمّل المشاق {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم اذكروا نِعْمَةَ} من فلْق البحر وإغراقِ العدو وتظليل الغمام وإنزال المنّ والسلوى وغير ذلك مما آتاهم الله تعالى من الأمور العِظام، والمرادُ بالعالمين الأممُ الخالية إلى زمانهم، وقيل: مِنْ عالَمِي زمانِهم.


{العالمين يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ} كرر النداء بالإضافة التشريفية اهتماماً بشأن الأمر ومبالغةً في حثهم على الامتثال به، والأرضُ هي أرضُ بيت المقدس، سُمِّيت بذلك لأنها كانت قرارَ الأنبياء ومسكنَ المؤمنين.
وقيل: هي الطورُ وما حوله، وقيل: دمشقُ وفِلَسطينُ وبعضُ الأردن، وقيل: هي الشام {الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي كتَبَ في اللوح المحفوظ أنها تكونُ مسكناً لكم إن آمنتم وأطعتم لقوله تعالى لهم بعد ما عصَوْا: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} وقولِه تعالى: {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم فَتَنْقَلِبُوا خاسرين} فإن ترتيبَ الخَيبة والخُسران على الارتداد يدل على اشتراط الكَتْب بالمجاهدة المترتِّبة على الإيمان والطاعة قطعاً، أي لا ترجِعوا مُدبرين خوفاً من الجبابرة، فالجار والمجرور متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من فاعل ترتدوا، ويجوز أن يتعلق بنفس الفعل، قيل: لما سمعوا أحوالهم من النقباء بكَوْا وقالوا: يل ليتنا مِتْنا بمصر، تعالَوْا نجعلُ لنا رأساً ينصرِفْ بنا إلى مصر، أو لا ترتدوا عن دينكم بالعصيان وعدم الوثوق بالله تعالى، وقوله: {فتنقلبوا} إما مجزومٌ عطفا على ترتدوا، أو منصوبٌ على جواب النهي، والخُسران خُسرانُ الدين والدنيا لا سيما دخولُ ما كتب لهم.
{قَالُوا} استئناف مبنيٌّ نشأ من مَساق الكلام كأنه قيل: فماذا قالوا بمقابلة أمرِه عليه السلام ونهيِه؟ فقيل: قالوا غيرَ ممتثِلين بذلك: {قَالُوا ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} متغلِّبين لا يتأتّى منازعتهم ولا يتسنى مناصبتهم. والجبارُ العاتي الذي يُجبرُ الناسَ ويقسرهم كائناً من كان على ما يريده كائناً ما كان، فعّال من جبرَه على الأمر أي أجْبَره عليه {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا} من غير صُنْع مِنْ قِبَلِنا، فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها {فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا} بسببٍ من الأسباب التي لا تعلُّقَ لنا بها {فَإِنَّا داخلون} حينئذ، أتَوْا بهذه الشرطية مع كون مضمونها مفهوماً مما سبق من توقيت عدمِ الدخول بخروجهم منها تصريحاً بالمقصود وتنصيصاً على أن امتناعهم من دخولها ليس إلا لمكانهم فيها، وأتَوا في الجزاء بالجملة الاسمية المصدرة بحرف التحقيق دلالةً على تقرُّر الدخول وثباتِه عند تحقّق الشرط لا محالة، وإظهاراً لكمال الرغبة فيه، وفي الامتثال بالأمر.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9